فهد توفيق الهندال
سؤال يعيد طرح ذاته علينا في كثير من قراءاتنا المتعددة لأجناس الكتابات في عوالم منسوبة للأدب أو الفكر أو العلم، يقودها هاجس مزمن في كيفية أن نميّز بين المفهومين، إذا ما وضعنا فواصل أو حدود، تكاد تجعلهما مختلفين تماماً شكلاً ومضموناً، بما يجعلنا ندور في فلك هذا السؤال.. هل حقا بينهما ما يفصلهما؟
المثقف مفهوم تناولته بعين التعريف والتحليل والتنظير، آلاف المقالات والبحوث والندوات، لمس جانب منها حقيقة المفهوم، وابتعد جانب آخر عنها أو وقع في لبس مع مفاهيم قرينة له.
تأتي تسمية المثقف في أوروبا من أصل كلمة (Intelligentsia) وتعني الفطنة أو القدرة على الإدراك والفهم والاستنتاج، لتكون محصورة في من تعتبر مهنته التفكير دون أن يرتبط ذلك بمستواه العلمي. فالمثقف إنسان يفكر بطريقة جديدة، وإن لم يكن على قدر عالٍ أو محدود من التعليم، إلا أنّه يستشعر ظروف عصره ومجتمعه عبر إدراكه العقلي والحسي، ليفهم كيف يفكر الأفراد، مطلعاً على ظروف ذلك، مع معطيات الواقع، متحمّلاً قدراً كبيراً من المسؤولية، مستعداً لتقديم تضحية في سبيل أفكاره ورؤاه ومن أجل الآخرين.
وهذه المسؤولية تتلخص في دوره المحوري في خلق الجديد من المبادئ والرؤى، مستنهضا طاقات المجتمع الخاملة، متعمقاً إلى بواطن الظواهر السلبية، مستلهما ذلك من سيرة دؤوبة من النشاط الفكري التطوعي لإنارة الباحثين في طريق المعرفة والوعي. فالمثقف يوجه المجتمع نحو سير هذا الخط الفكري، بما يرسمه من هدف يخدم رسالة غرضها التحوّل والتطوّر من مرحلة ثقافية إلى أخرى جديدة في مسيرة تنمية المجتمع فكرياً وحضارياً. فالحضارة نتاج طبيعي لتحرّك المجتمع نحو نمط فكري متحوّل يتدرج رأسيا في بنائه الثقافي العام وأفقيا في مساحة الوعي والمعرفة، دون أن يلتبس عليها تقمص تجارب مجتمعات أخرى أو تستورد ثقافة أجنبية غريبة عن ظروف الأرض وجغرافيتها الإجتماعية، مما يجعل من هذه الثقافة مشوهة في أعماق متقمصيها، ضبابية في عيون مستقبلهم.
إنّ عدم التدرج في مناحي الثقافة، قد ينتج عن قطيعة خطيرة مع تجارب ومراحل الثقافة السابقة، لتحل حضارة خادعة غير أصيلة، تهدف لقطع السبيل أمام ركب استمر لمئات السنين وشطبه في ليلة واحدة، تحت ذريعة وهم التغيير والثورة على الواقع، الأمر الذي يوقعها في حفرة ضياع أسس بناء مجتمع جديد ذات ثقافة جديدة. فالتجارب أثبتت نجاح فكر ما في مجتمع معيّن، وفشل في مجتمع آخر. فالحرِّية مثلاً، نجحت في تحقيق مشاريعها الإصلاحية في مكان، وتم استغلالها وبالتالي اجهاضها تماماً في مكان آخر.
كذلك، من أهم آفات المثقفين، هو الانجراف والميل نحو فكر معيّن بشكل تام وعنيف، أو يكون نتاجه الفكري ردة فعل على فكر سابق أو مخالف، ليكون في وضع يسمع لمزيد من الصدام والصراع، فتنحسر مناخات الاعتدال والوسطيية في التعاطي مع مختلف الأفكار من مختلف الاتّجاهات.
أمام هذه اللمحة المقتضبة عن مفاهيم المثقف، نعيد طرح سؤال البداية.. ما بين المثقف والمبدع؟
إذا ما أردنا أن نحدد هوية المثقف، سنجد أنّه ينتمي لطبقة تعمل بالفكر، وأدوات عملها الإجتماعي العقل والوعي والمعرفة، مقابل طبقات أخرى تحترف العمل اليدوي أو المالي أو غيرهما. لنسأل أين يكمن موقع المبدع بين هذه الطبقات. فالمبدع في جوهر مفهومه إنسان يبتكر جديداً في مجاله، عبر أدوات حسّية وعقلية أصيلة غير متكرّرة أو منسوخة أو مقلدة.
المصدر: كتاب الفكر والحجر (تأمّلات ذاتية في مدارات الهوية)